فصل: قال ابن عادل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}.
قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ} مبتدأٌ وخبرٌ، و{الطلاق} يجوز أن يكون مصدر طَلَقَتِ المَرْأَةُ طَلاَقًا، وأن يكون اسم مصدر، وهو التطليقُ؛ كالسَّلام بمعنى التَّسليم، ولابد من حذف مضافٍ قبل المبتدأ؛ ليكون المبتدأُ عين الخبر، والتقدير: عددُ الطَّلاق المشروع فيه الرَّجعة مرَّتان.
والتثنية في {مَرَّتَانِ} حقيقةٌ يراد بها شفعُ الواحد، وقال الزمخشريُّ: إنها من باب التثنية الَّتي يراد بها التكرير وجعلَهَا مثْلَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَهَذَا ذَيْكَ.
وردَّ عليه أبو حيَّان بأنَّ ذلك مناقضٌ في الظاهر لما قاله أولًا، وبأنه مخالفٌ للحكم في نفس الأمر، أمَّا المناقضة، فإنه قال: الطَّلاق مَرَّتَان، أي: الطلاقُ الشرعيُّ تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دون الإرسال دفعةً واحدةً، فقوله هذا ظاهرٌ في التثنية الحقيقيّة، وأمَّا المخالفة، فلأنه لا يراد أن الطلاق المشروع بقع ثلاثَ مراتٍ فأكثر، بل مرتين فقط؛ ويدلُّ عليه قوله بعد ذلك: {فَإِمْسَاكٌ}، أي: بالرَّجْعَةِ من الطَّلْقَةِ الثانية، {أَوْ تَسْرِيحٌ} أي: بالطلقة الثالثة؛ ولذلك جاء بعده {فَإِنْ طَلَّقَهَا}.
انتهى ما ردَّ به عليه، قال شهاب الدين: والزَّمخشريُّ إنما قال ذلك لأجل معنًى ذكره، فينظر كلامه في الكشاف؛ فإنه صحيحٌ.
والألف واللام في الطَّلاَق قيل: هي للعهد المدلول عليه بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] وقيل: هي للاستغراق، وهذا على قولنا: إن هذه الجملة متقطعةٌ ممَّا قبلها، ولا تعلُّق لها بها.
قوله: {فَإِمْسَاكٌ} في الفاء وجهان:
أحدهما: أنها للتعقيب، أي: بعد أن عرَّف حكم الطلاق الشرعيِّ؛ أنه مرَّتان، فيترتَّب عليه أحد هذين الشيئين.
والثاني: أن تكون جواب شرطٍ مقدَّرٍ، تقديره: فإن أوقع الطَّلقتين، وردَّ الزَّوجة فإمساكٌ.
وارتفاعُ {إِمْسَاكٌ} على أحد ثلاثة أوجهٍ: إمَّا مبتدأ وخبره محذوفٌ متقدِّمًا، تقديره عند بعضهم: فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاكٌ، وقَدَّرهُ ابن عطية متأخِّرًا، تقديره: فإِمْسَاكٌ أَمْثَلُ أَوْ أَحْسَنُ.
والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: فالواجب إمساكٌ.
والثالث: أن يكون فاعل فعلٍ محذوفٍ، أي: فليكن إمساك بمعروفٍ.
قوله: {بِمَعْرُوفٍ} و{بِإِحْسَانٍ} في هذه الباء قولان:
أحدهما: أنها متعلِّقة بنفس المصدر الذي يليه، ويكون معناها الإلصاق.
والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفة لما قبلها، فتكون في محلِّ رفعٍ، أي: فإسماك كائنٌ بمعروفٍ، أو تسريح كائنٌ بإحسان.
قالوا: ويجوز في العربيَّة نصب {فَإِمْسَاكٌ}، و{تَسْرِيحٌ} على المصدر، أي: فأمسكوهنَّ إمساكًا بمعروف، أو سرِّحُوهُنَّ تسريحًا بإحسان، إلاَّ أنَّه لم يقرأ به أحدٌ.
والتَّسريح: الإرسال والإطلاق، ومنه قيل للماشية: سَرْحٌ، وناقَةٌ سُرُحٌ، أي: سهلة السَّير؛ لاسترسالها فيه.
وتسريح الشَّعر: تخليص بعضه من بعض، والإمساك خلاف الإطلاق، والمساك والمسكة اسمان منه؛ يقال: إِنَّه لذو مُسكةٍ ومساكة إذا كان بخيلًا.
قال الفرَّاء: يقال: إنه ليس بمساك غلمانه، وفيه مساكة من جبر، أي: قُوَّة.
قوله: {أَنْ تَأْخُذُوا}: {أَنْ} وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ على أنه فاعل {يَحِلُّ}، أي: ولا يَحِلُّ لكُم أَخْذُ شَيءٍ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ.
و{مِمَّا} فيه وجهان.
أحدهما: أن يتعلَّقَ بنفسِ {تَأْخُذُوا}، ومِنْ على هذا لابتداءِ الغاية.
والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من {شَيْئًا} قُدِّمت عليه؛ لأنها لو تأَخَّرَتْ عنه لكانَتْ وصفًا، ومِنْ على هذا للتبعيض، ومَا موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ، تقديره: مِنَ الذي آتيتموهنَّ إِيَّاهُ، وقد تقدَّم الإِشكالُ والجوابُ في حذفِ العائدِ المنصوب المنفصلِ عند قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] وهذا مثلُه، فَلْيُلْتَفَتْ إليه.
وآتَى يتعدَّى لاثنين، أولهُما هُنَّ والثاني هو العائدُ المحذوفُ، و{شَيْئًا} مفعولٌ به ناصبُه {تَأْخُذُوا}.
ويجوزُ أن يكونَ مصدرًا، أي: شيئًا مِنَ الأَخْذِ.
والوجهانِ منقولانِ في قوله: {لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [يس: 54].
قوله: {إِلاَّ أَن يَخَافَا} هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ، وفي {أَنْ يَخَافَا} وجهان: أحدهما: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعولٌ من أجلِهِ، فيكونُ مستثنىً من ذلك العامِّ المحذوفِ، والتقديرُ: وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أن تَأْخُذُوا بِسَبَب من الأسباب، إلا بسببِ خوفِ عدم إقامة حُدُودِ الله، وحُذِفَ حرفُ العلةِ؛ لاستكمالِ شروط النصب، لاسيما مع أَنْ ولا يجيءُ هنا خلافُ الخليلِ وسيبويه: أهيَ في موضع نصبٍ، أو جرٍّ بعد حَذْفِ اللامِ، بل هي في محلِّ نصبٍ فقط، لأنَّ هذا المصدرَ لو صُرِّحَ به، لنُصِبَ، وهذا قد نصَّ عليه النحويُّون، أعنِي كونَ أَنْ وما بعدها في محلِّ نصبٍ، بلا خلافٍ، إذا وقعَتْ موقعَ المفعولِ له.
والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ، فيكونُ مستثنى من العامِ أيضًا، تقديره: ولاَ يَحِلُّ لكُمْ في كلِّ حالٍ من الأحوالِ إلاَّ في حالِ خوفِ أَلاَّ يقيما حدودَ اللهِ، قال أبو البقاء: والتقديرُ: إلاَّ خائفينَ، وفيه حَذْفُ مضافٍ، تقديره: وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أَنْ تأخُذُوا على كلِّ حال، أو في كلِّ حال إلا في حالِ الخوفِ، والوجهُ الأولُ أحسنُ، وذلك أَنَّ أَنْ وما في حَيِّزها مُؤَوَّلةٌ بمصدرٍ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقعَ اسم الفاعلِ المنصُوبِ على الحَال، والمصدرُ لا يطَّرِدُ وقوعُه حالًا، فكيف بما هو في تأْويله!! وأيضًا فقد نَصَّ سيبويه على أنَّ أَن المصدرية لا تقَعُ موقعَ الحالِ.
والألفُ في قوله: {يَخَافَا} و{يُقِيمَا} عائدةٌ على صنفَي الزوجين، وهذا الكلامُ فيه التفاتٌ، إذ لو جَرَى على نَسَقِ الكلام، لقيل: إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا أَلاَّ تُقِيمُوا بِتَاءِ الخِطَابِ لِلْجَمَاعَةِ، وقد قَرأَها كذلك عبد الله، ورُوِي عنه أيضًا بياءِ الغَيْبَة، وهو التفاتٌ أيضًا.
والقراءةُ في {يَخَافَا} بفتحِ الياءِ واضحةٌ، وقرأها حمزة وأبو جعفر ويعقوب بضمِّها على البناء للمفعول، وقَد استشكلها جماعةٌ، وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب، وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً، أحسنُها أَنْ يكونَ {أَنْ يُقِيمَا} بدلًا من الضمير في {يَخَافَا}؛ لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه، تقديره: إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَدَمُ إقامَتِهما حُدُودَ اللهِ، وهذا من بدل الاشتمال؛ كقولك: الزَّيْدَانِ أَعْجَبَانِي عِلْمُهُمَا، وكان الأصلُ: إِلا أن يخافَ الوُلاَةُ الزوجَيْنِ أَلاَّ يقيمَا حُدُودَ اللهِ، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو الوُلاَةُ؛ للدلالة عليه، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وبقيتْ أَنْ وما بعدها في محلِّ رفعٍ بَدَلًا؛ كما تقدَّم تقديرُه.
وقد خرَّجه ابن عطيَّة على أنَّ خَافَ يتعدَّى إلى مفعولين كاسْتَغْفَرَ، يعنيك إلى أحدِهما بنفسِه، وإلى الآخرِ بحرفِ الجَرِّ، وجَعَلَ الألِفَ هي المفعولَ الأولَ قامَتْ مقامَ الفاعلِ، وأَنْ وما في حَيِّزها هي الثاني، وجَعَل أَنْ في محلِّ جرٍّ عند سيبويه والكِسائيِّ، وقد رَدَّ عليه أبو حيان هذا التخريجَ؛ بأنَّ خَافَ لا يتعدَّى لاثنين، ولم يَعُدَّهُ النحويون حين عَدُّوا ما يَتَعَدَّى لاثنين؛ ولأنَّ المنصوبَ الثاني بعده في قولك: خِفْتُ زَيْدًا ضَرْبَهُ، إنما هو بدلٌ لا مفعولٌ به، فليس هو كالثاني في اسْتَغْفَرْتُ اللهَ ذَنْبًا، وبأن نسبة كَوْنِ أَنْ في محلِّ جر عند سيبويه ليس بصحيحٍ، بل مذهبُه أنها في محلِّ نصبٍ، وتبعه الفراء، ومذهبُ الخليل: أنها في محلِّ جَرٍّ، وتبعه الكسائيُّ، وهذا قد تقدَّم غيرَ مرةٍ.
وقال غيره كقوله؛ إلاَّ أنَّه قدَّر حرفَ الجرِّ عَلَى، والتقدير: إلاَّ أنْ يَخَافَ الوُلاَةُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى أَلاَّ يُقِيمَا، فَبُنِيَ للمفعولِ، فقام ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وحُذِفَ حرفُ الجر مِنْ أَنْ فجاء فيه الخلافُ المتقدِّمُ بين سيبويه والخليل.
وهذا الذي قاله ابنُ عطيةَ سَبَقَه إليه أبو عليٍّ، إلاَّ أنه لم يُنَظِّرْهُ باسْتَغْفَرَ.
وقد استشكل هذه القراءةَ قومٌ وطعَنَ عليها آخَرُونَ، لا عِلمَ لهم بذلك، فقال النحَّاسُ: لا أعْلَمُ في اختيارِ حمزة أبعدَ من هذا الحَرْفِ؛ لأنه لا يُوجِبُهُ الإِعرابُ، ولا اللفظُ، ولا المعنى.
أمَّا الإِعرابُ: فلأنَّ ابنَ مسعود قرأ: {إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا أَلاَّ يُقِيمُوا}، فهذا إذا رُدَّ في العربيةِ لما لم يُسَمَّ فاعلُه، كان ينبغي أَنْ يُقال: إِلاَّ أَنْ يُخَافَ.
وأمَّا اللفظُ: فإِنْ كان على لفظِ يُخَافَا، وَجَبَ أن يقال: فَإِن خِيفَ، وإن كان على لفظ {خِفْتُمْ}، وَجَب أن يقال: إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا.
وأمَّا المعنى: فَأَسْتَبْعِدُ أن يُقَالَ: وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخافَ غَيْرُكُمْ، ولم يَقُلْ تعالى: {ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَهُ منْهَا فدْيَةً}، فيكون الخُلْعُ إلى السلطان، والفَرْضُ أَنَّ الخُلْعَ لا يحتاجُ إلى السلطانِ.
وقد رَدَّ الناسُ على النحَّاس: أمَّا ما ذكره من حيث الإِعرابُ: فلا يَلْزَمُ حمزةَ ما قرأ به عبدالله.
وأمَّا مِنْ حيثُ اللفظُ، فإنه من باب الالتفاتِ؛ كما قَدَّمْتُه أولًا، ويَلْزَمُ النَّحَّاسَ أنه كان ينبغي على قراءةِ غيرِ حمزةَ أن يقرأَ: فَإِنْ خَافَا، وإِنَّما هو في القراءتَين من الالتفاتِ المستحْسَنِ في العربيةِ.
وأمَّا من حيثُ المعنى: فلأنَّ الولاةَ والحكامَ هُمُ الأصلُ في رَفْعِ التظالُمِ بين الناسوهم الآمرون بالأخْذِ والإِيتاء.
ووجَّه الفراء قراءةَ حمزةَ، بأنه اعتبرَ قراءةَ عبدِ الله: {إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا}.
وخَطَّأَهُ الفارسيُّ وقال: لَمْ يُصِبْ؛ لأنَّ الخوفَ في قراءةِ عبدِ الله واقعٌ على أَنْ، وفي قراءة حمزة واقعٌ على الرجُلِ والمَرْأَةِ.
وهذا الذي خَطَّأَ به الفراء ليس بشيءٍ؛ لأنَّ معنى قراءةِ عبد الله: إِلاَّ أَنْ تَخَافُوهُمَا، أي: الأولياءُ، الزوجين ألاَّ يُقيمَا، فالخوفُ واقعٌ على أَنْ وكذلك هي في قراءةِ حمزة الخوفُ واقعٌ عليها أيضًا بأحدِ الطريقينِ المتقدِّمينِ: إمَّا على كونها بدلًا من ضميرِ الزوجين؛ كما تقدَّم تقريره، وإمَّا على حذف حرف الجرّ، وهو على.
والخوفُ هنا فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه على بابِه من الحَذَرِ والخَشْيَةِ، فتكونُ أَنْ في قراءةِ غير حمزةَ في محلِّ جَرٍّ، أو نصبٍ؛ على حَسَبِ الخلافِ فيها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ؛ إذ الأصلُ: مِنْ أَلاَّ يُقِيمَا، أو في محلِّ نصبٍ فقط؛ على تعديةِ الفعلِ إليها بنفسِهِ؛ كأنه قيل: إِلاَّ أَنْ يَحْذَرَ عَدَمَ إِقَامَةِ حُذُودِ اللهِ.
والثاني: أنه بمعنى العِلْم، وهو قَوْلُ أبي عُبَيْدَة.
وأنشد الطويل:
فَقُلْتُ لَهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ** سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ

ومنه أيضًا: الطويل:
وَلاَ تَدْفِنَنِّي فِي الفَلاَةِ فَإِنَّنِي ** أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لاَ أَذُوقُهَا

ولذلك رُفِعَ الفعلُ بعد أَنْ، وهذا لا يصحُّ في الآيةِ، لظهورِ النَّصْب، وأما البيتُ، فالمشهورُ في روايتِهِ فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بأَلْفَيْ.
والثالث: الظَّنّ، قاله الفراء؛ ويؤيِّدُهُ قراءةٌ أُبَيٍّ: إِلاَّ أَنْ يَظُنَّا؛ وأنشد: الطويل:
أَتَانِي كَلاَمٌ مِنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ ** وَمَا خِفْتُ يَا سَلاَّمُ أَنَّكَ عَائِبِي

وعلى هذين الوجهين، فتكونُ أَنْ وما في حَيِّزها سَادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْن عند سيبويه ومَسَدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش؛ كما تقدَّم مرارًا والأولُ هو الصحيحُ وذلك أَنَّ خَافَ مِنْ أفعالِ التوقُّع، وقد يميل فيه الظنُّ إلى أحدِ الجائِزَين، ولذلك قال الراغب: الخَوْفُ يُقال لِمَا فيه رجاءٌ مَّا؛ ولذلك لا يُقال: خِفْتُ أَلاَّ أَقْدِرَ على طلوعِ السماءِ، أو نَسْفِ الجبالِ.
وأصلُ {يُقيمَا} يُقْوِمَا، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكن قبلَها، ثم قُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لسكونها؛ بعد كسرةٍ، وقد تقدَّم تقريرُه في قوله: {الصراط المستقيم} [الفاتحة: 5].
وزعم بعضهم أنَّ قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ} معترضٌ بين قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ}، وبين قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ} [البقرة: 230]، وفيه بَعْدٌ.
قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} لَا واسمُها وخبرُها، وقوله: {فِيمَا افتدت بِهِ} متعلِّقٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنَهُ الخبرُ، وهو {عَلَيْهِمَا}، ولا جائزٌ أن يكونَ {عَلَيْهِمَا} متعلِّقًا ب {جُنَاحَ} و{فِيمَا افتدت} الخبرَ؛ لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلًا، والمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ، وهذا- كما رأيتَ- مبنيٌّ.
والضميرُ في {عَلَيْهِمَا} عائدٌ على الزوجَيْن، أي: لا جُنَاحَ على الزوجِ فِيمَا أَخَذَ، ولا على المَرْأَةِ فيما أَعْطَتْ، وقال الفراء: إنَّما يَعُودُ على الزوجِ فقط، وإنما أعادَهُ مُثَنى، والمرادُ واحِدٌ؛ كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61]؛ وقوله: الطويل:
فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا بْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ ** وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعَا

وإنما يخرجُ من المِلْحِ، والنَّاسي يُوشَعُ وحدَهُ، والمنادَى واحدٌ في قوله: يَا بْنَ عَفَّانَ.
ومَا بمعنى الذي، أو نكرةٌ موصوفة، ولا جائزٌ أن تكونَ مصدريةً؛ لعَوْدِ الضميرِ مِنْ بِهِ عليها، إلا على رَأْي مَنْ يجعلُ المصدريةَ اسمًا؛ كالأخفش وابنِ السَّرَّاج ومَنْ تابَعَهُما.
قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} مبتدأٌ وخبرٌ، والمشارُ إليه جميعُ الآياتِ من قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} [البقرة: 221] إلى هنا.
وقوله: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} أصلُه: تَعْتَدِيُوهَا، فاسْتُثْقِلَت الضمَّةُ على الياءِ؛ فحُذِفت، فسكنَتِ الياءُ وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةً، فحُذِفت الياءُ؛ لالتقاءِ الساكنَينِ، وضُمَّ ما قبلَ الواو؛ لتصِحَّ، ووزنُ الكَلِمَة تَفْتَعُوها.
قال أبو العبَّاس المُقْرِي: ورد لفظ: الاعْتِدَاء في القُرآن بإزاء ثلاثة معانٍ:
الأول: الاعتِداء: تعدِّي المأمُورات والمنهيَّات؛ قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
والثاني: الاعتِدَاء القتل؛ قال تعالى: {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] أي: من قتل بعد قبُول التَّوْبة.
الثالث: الاعْتِداء الجزاء؛ قال تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] أي: جاوزهُ.
قوله: {وَمَن يَتَعَدَّ} مَنْ شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وفي خبرها الخلاف المتقدِّم.
وقوله: {فأولئك} جوابها، ولا جائزٌ أن تكون موصولةٌ، والفاء زائدة في الخبر لظهور عملها الجزم فيما بعدها، و{هُمُ} من قوله: {فأولئك هُمُ} يحتمل ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون فصلًا.
والثاني: أن يكون بدلًا.
و{الظالمون} على هذين خبر {أُولَئِكَ} والإخبار بمفردٍ.
والثالث: أن يكون مبتدأً ثانيًا، و{الظالمون} خبره، والجملة خبر {أُولَئِكَ}، والإخبار على هذا بجملةٍ.
ولا يخفى ما في هذه الجملة من التأكيد؛ من حيث الإتيان باسم الإشارة للبعيد، وتوسُّط الفصل والتعريف بالألف واللام في {الظالمون} أي: المبالغون في الظلم.
وحمل أولًا على لفظ مَنْ، فأفرد في قوله: {يَتَعَدَّ}، وعلى معناها ثانيًا، فجمع في قوله: {فأولئك هُمُ الظالمون}. اهـ. باختصار.